بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على سيدنا محمد النور وآله
كتاب رياض الخيرات فى مولد سيد السادات للأستاذ الشيخ عبد المحمود الطيبي السماني
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الأول
أحْمَدُ مَنْ أبْرَزَ مِنْ نُورِ جَمَالِ حَضْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، نُورًا اقْتُبِسَتْ مِنْهُ حَقَائقُ الكَائنَاتِ , وأشْكُرُهُ شُكْرَ مَنْ اسْتَأْنَسَ بِرِيَاضِ شُهُودِ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَمَالِيَّةِ، وأَرْوَى الْبَصَائِرَ مِن شَرَابِ الاسْتِبْصَارِ بِمَطَالِعِ الْعِنَايَاتِ. وأُصلِّي وأُسلِّمُ عَلَى مَنْ عُقِدَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ فِي الأَزَمَانِ الأزَلِيَّةِ، قَبْلَ خَلْقِ شَيْءٍ مِن الْمُكَوَّنَاتِ . وَدَعَا الْخَلِيقَةَ عِنْدَ إِيجَادِ الأَرْوَاحِ وَبَدْءِ الأنْوَارِ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، كَمَا دَعَاهُمْ آخِرًا فِي خِلْقَةِ جَسَدِهِ الْحَاوِي لِجَمِيعِ الْكَمَالاتِ . كَمَا يَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) وَغَيْرُهُ مِنَ الآيَاتِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَرْوِيَّةِ {كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ} وَفِي رِوَايَةٍ {لا آدَمَ وَلا مَاءَ ولا طِينَ} فَيَا لَهَا مِن شَهَادَاتٍ . فَلا رَيْبَ أَنَّهُ أَنْذَرَ الْخَلِيقَةَ أَجْمَعَ وَآمَنَ الْكُلُّ بِهِ فِي الأَوَّلِيَّةِِ، كَمَا آمَنَ بِهِ فِي الآخِرِيَّةِ بِلا اخْتِلافٍ بَيْنَ الْجَهَابِذِةِ الأَلِبَّاءِ الثِّقَاتِ. مُحَمَّدٍ الْمُسْتَلِّ من أُرُومَةِ الْبَلاغَةِ والْبَرَاعَةِ الْمُحْتَلِّ فِي بُحْبُوحَةِ النَّصَاحَةِ والْفَصَاحَةِ الْبَيَانِيَّة، الْكَاشِفِ لِلآلِئِ كُنُوزِ رُمُوزِ إشَارَاتِ طَلاسِمِ الْمَعَانِي الْوَحْيِيَاتِ. الرَّافِلِ فِي مُعَسْجَدِ دِيبَاجِ تَجَلِّيَّاتِ الأنْوَارِ الْقُدُسِيَّةِ، الْمَكْسُوِّ حُلَّةَ القََبُولِ بَيْنَ الرُّوحَانِيَّاتِ والْجُسْمَانِيَاتِ, الْمَبْعُوثِ لإقَامَةِ الْمِلَّةِ السَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَانْطِوَاءِ سِجِلِّ الشِّرْكِيَاتِ وَالْكُفْرِيَاتِ. كَيْفَ لا وَقَدْ أَظْهَرَ الْحَقُّ تَعَالَى يَوْمَ مَوْلِدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِن الأنْبِيَاءِ الْقَبْلِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ غُرَرِ الْبَرَاهِينِ الْفَاخِرَةِ وَالأنْوَارِ السَّاطِعَةِ والإرْهَاصَاتِ. أَمْ كَيْفَ لا وَهْوَ السَّبَبُ فِي جَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْوُجُودِيَّةِ، وَفِي حَدِيثِ {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورَ نَبِيِّكِ يَا جَابِرُ} غُنْيَةٌ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الأحَادِيثِ الْوَارِدَاتِ وَعَلَى آلِهِ الْمُتَمَسِّكِينَ مِنَ الْحَقِّ بِأَمْتَنِ أَسْبَابِهِ الْقَوِيَّةِ، الْمُعَطَّرِينَ بِنَفْحَةِ عِطْرِ هِدَايَتِهِ بَيْنَ الْبَرِيَّاتِ . وَأَصْحَابِهِ الرَّاقِينَ مَدَارِجَ مَعَارِجِ الْمَجْدِ النَّاهِجِينَ مَنَاهِجَ الْمَبَاهِجِ السَّعْدِيَّةِ، الْعَاصِرِينَ عُقُودَ الثُّرَيَّا بِأقْدَامِ مَفَاخِرِهِم الرَّفِيعَاتِ. وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مُتَمَسِّكاً بِشَرِيعَتِهِ الْمَرْضِيَّةِ، شَارِباً مِنْ شَرَابِ مَحَبَّتِهِ أَصْفَى الرَّاحَاتِ. صَلاةً وَسَلامًا يَدُومَانِ مَا تَرَنَّحَتْ بِسُلافِ أَنْبَائِهِ الأرْوَاحِ الْوَجْدِيَّةِ، وَبِمُطْرِبَاتِ الْحَنِينِ إلَى مَا ثَوَى فِيهِ مِنْ الرَّوْضَاتِ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الثانى
وَبَعْدُ فَقَدْ وَلِعَ الْخَاطِرُ بِتَأْلِيفِ مَوْلِدٍ يُتْلَى فِيمَا لَهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الأَنْبَاءِ الْمَوْلِدِيَّةِ، فَنَطَقَ لِسَانُ الشَّكْرِ بِتَسْمِيَتِهِ {رِيَاضَ الْخَيْرَاتِ} . فَأَقُولُ مُسْتَمِدًا مِنْ جَعْفَرٍ فُيُوضَاتِ أَسْرَارِهِ الإمْدَادِيَّةِ، مَدَدًا أسْتَعِينُ بِهِ عَلَى إبْرَازِ أبْكَارِ مَعَانِيهِ الْمُخَدَّرَاتِ جَالِيًا خَمْرَةَ أَسْرَارِ لَطَائِفَ غَرَائِبَ عَجَائِبَ أَسَالِيبِهِ الْبَدِيعِيَّةِ، لِيَحْسُوهَا السَّامِعُونَ بِأَوَانِي الآذَانِ عِوَضًا عَنِ الْكَاسَاتِ . نَاظِمًا نَسَبَهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِلْكِ عِقْدِ لآلِىءَ دُرِّيَّةٍ، رَاوِيًا بَعْدَ إسْنَادِ خَبَرِ مِيلادِهِ بَأَلْطَفِ رِوَايَاتٍ .
اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ نَسَبِهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلائِلَ فِكْرِيَّةٍ، لِصِيَانَتِهِ وَشَرَفِهِ وَظُهُورِهِ عَلَى الأَنْسَابِ الْقَبْلِيَاتِ والْبَعْدِيَاتِ. وَفِي مَعْنَى قَـوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (وَتَقَلُّبَكَ فى السَّاجدينَ) إشَارَةٌ إِلَى مَا لَهُ مِنْ الْكَمَالاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيِّةِ، وَشَرَفِ مَنْ يُعْزَى لَهُم مِنَ الآبَاءِ وَالأجْدَادِ وَالأُمَّهَاتِ كَيْفَ لا وَهْوَ دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَنَسْلُ الذَّاتِ الإسْمَاعِيلِيَّةِ، ونُخْبَةُ قُرَيْشٍ وَصَمِيمُهَا وَأشْرَفُ الْعَرَبِ السَّرَوَاتِ وأعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ آمِنَةَ الأَبِيَّةِ وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَكْرَمِ بِلادٍ أمَّهَا الْوَحْيُ مِن السَّمَاواتِ . فَمَا أشْرَفَهُ مِن نَبِيٍّ اسْتُكْمِلَتْ فِيهِ سَائِرُ الْخَلائِقِ الشَّرَفِيَّةِ، وَرَسُولٍ بَشَّرَ بِهِ الإنْجِيلُ وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ الزَّبُورُ وَالتَّوْرَاةُ. فَهْوَ: مُحَمَّدُ بِنُ عَبْدِ اللهِ مَطْلَعِ سَوَاطِعِ شُمُوسِ التَّجَلِّيَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، الْذِي أُكْرِمَ بالْحَيَاةِ وَالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ بَعَدِ الْمَمَاتِ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُؤْتَمِّ بِهِ بَيْنَ الجَحَاجِحَةِ الفِهْرِيَّةِ الْمُشِيرِ بِتَرْكِ قِتَالِ أَصْحَابِ الْفِيلِ لِرَبِّ الْمُطَافَةِ فِي الأَرْضِ دُونَ غَيْرِهَا مِن الأَبْيَاتِ ابْنُ هَاشِمٍ الْجَامِعِ لِشَرَفِ الْوُجُوهِ الإحْسَانِيَّةِ، الشَّهْمِ الشَّهِيرِ بِهَشْمِ الثَّرِيدِ لِلنَّاسِ فِي الْمَجَاعَاتِ . ابنُ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيٍّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَقَاصِيهِ عَنْ عَشِيرَتِهِ فِي بِلادِ قُضَاعَةِ القَصِيَّةِ، ابْنُ كِلابٍ وَاسْمُهُ حَكِيمُ بْنُ مُرَّةَ بْنُ كَعْبٍ بْنُ لُؤَيٍّ النَّاشِرِ عَلَى كَاهِلِ الدَّهْرِ ألْوِيَةَ الْمَسَرَّاتِ ابْنُ غَالِبٍ بْنِ فِهْرٍ مَجْمَعِ الْبُطُونِ الْقُرَشِيَّةِ، وَمَا فَوْقَهُ كِنَانِيٌّ كَمَا جَنَحَ إلَيْهِ الْكَثِيرُ مِن الرَّوَاةِ . ابْنُ مَالِكٍ بْنِ النَّضْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ قَوْمِهِ بِالنَّضَارَةِ الذَّاتِيَّةِ، ابْنُ كِنَانَةَ الرَّاقِي فِي الْفَضْلِ ذُرَى الدَّرَجَاتِ . ابْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ الَّذِي أَدْرَكَ كُلَّ فَخْرٍ وَعِزٍّ كَانَ فِي آبَائِهِ الأوَلِيَّةِ، ابْنُ إلْيَاسَ الَّذِي سُمِعَ فِي صُلْبِهِ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَ اللهَ بِنَدِيِّ الأصْوَاتِ ابْنُ مُضَرَ الَّذِي تُعْزَى إلِيْهِ الْحَمْرَاءُ وتَغْتَدِي بِهِ تِلْكَ الشُّعُوبُ والْقَبَائِلُ الْحِجَازِيَّةُ، ابْنُ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ الْمُعَدُّ لِكَشْفِ الْمُلِمَّاتِ . ابْنُ عَدْنَانَ ضِئْضِئِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ وَفِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ خِلافٌ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ رَفَعَ النَّسَبِ إلَى آدَمَ عَلَيْهِ حَفِيلُ التَّحِيَّاتِ . وَعَدْنَانُ بِلا رَيْبٍ عِنْدَ أُوْلِي الْمَعْرِفَةِ النَّسَبِيَّةِ، مِنْ ذُرِيَّةِ الذَّبِيحِ إسْمَاعِيلَ المُومَى إِلِيْهِ بِذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الصَّافَاتِ وَهَذَا النَّسَبُ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى وَلا أَشْرَفَ مِنْهُ فِي سَائِرِ الأَنْسَابِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي حَدِيثِ {إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ}.
نَسَبٌ عَلَى الأَنْسَابِ فَاقَ فَخَارَا - وَرَقَى عَلَى أَوْجِ الْكَمَالِ جِهَارَا
نَسَبٌ لَهُ شَرَفٌ وَنُورٌ ظَاهِرٌ - فَاقَ الشُّمُوسَ وَأَخْجَلَ الأَقْمَارَا
نَسَبٌ تَنَزَّهَ عَنْ سِفَاحٍ أنَّهُ - مِنْ عَهْدِ آدَمَ قَدْ حَلا أخْبَارَا
نَسَبٌ عَلَى الْجَوْزَاءِ فَاقَ مَكَانَةً - وَغَدَا عَبِيرُ ثَنَائِهِ مَطَّارَا
نَسَبٌ بُرُودُ بَيَانِهِ قَدْ طُرِّزَتْ - بِمُحَمَّدٍ مَنْ قَدْ عَلا مِقْدَارَا
صَلَى عَلِيْهِ اللهُ مَوْلاهُ الَّذِي - أَدْنَاهُ مِنْهُ وَقَدْ كَسَاهُ وَقَارَا
مَعْ آلِهِ وَالصَّحْبِ مَنْ قَدْ عَطَّرُوا - بِحَدِيثِ رِفْعَةِ قَدْرِهِ الأقْطَارَا
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الثالث
وَلَمَّا أرَادَ اللهُ ابْرَازَ الْحَقِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، مُكَمَّلَةً تَخْتَالُ بِخِلَعِ الْجَلالِ والْجَمَالِ مِنْ وَرَاءِ السُّرَادِقَاتِ نَظَرَ إلَى صَفَاءِ نُورِهِ الَّذِي خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ وَأَبْدَعَهُ بِحِكْمَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، وَأَضَافَهُ تَشْرِيفًا إلَى عَظَمَةِ ذَاتِهِ الْمُتَعَالِيَةِ عَن الذَّوَاتِ . اسْتَخْرَجَ مِنْهُ جُزْءً وَمِنْهُ ذَرَأَ سَائِرَ الْعَوَالِمَ الْخَلْقِيَّةِ، ثُمَّ أَوْقَفَهُ تَعَالَى بَيْنَ يِدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَاتِ . يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ الْمَلائِكَةُ الْعُلْوِيَّةُ، فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ وَلأَجْلِهِ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ لَهُ بِالسُّجُودِ كَمَا فِي مُحْكِمِ الآياتِ ثُمَّ أَهْبَطَهُ فِي صُلْبِهِ إِلَى الأَرْضِ وَجَعَلَهُ فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ الْجَلِيَّةِ، وَبِهِ نَجَّى وَأَمَّنْ مَنْ آمَنْ بِهِ مِن الْهَلَكَاتِ وَفِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ حِينَ قُذِفَ بِهِ فِي النَّارِ النَّمْرُوذِيَّةِ، فَصَارَتْ عَلَيْهِ بِبَرَكَتِهِ بَرْدًا وَسَلامًا بَيْنَ الْفَرَاعِنَةِ الطُّغَاةِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْتَقِلُ مِن الأصْلابِ الْكَرِيمَةِ إلَى الأرْحَامِ الطَّاهِرَةِ الزَّكِيَّةِ، إلَى أنْ انْتَقَلَ إلَى عَبْدِ اللهِ هِضَابِ الْمَكْرُمَاتِ فَأَنْكَحَتْهُ الْقُدْرَةُ الْبَاهِرَةُ لِلْعُقُولِ مَخْطُوبَتَهُ مِنْ غَيْرِ سِفَاحٍ آمِنَةَ الْفَتِيَّةَ، فَانْتَقَلَ إلَيْهَا هَذَا النُّورُ الْمُومَى إلِيْهِ مِن الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّاتِ
وَكَانَ ذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمْعَةِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَقِيلَ مُنْتَصَفَ جُمَادَى الآخِرَةِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْوَاقِدِيَّةِ فَلَمْ تَبْقَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ دَابَّةٌ إلاَّ وَقَدْ قَالَتْ: حُمِلَ بِمُحَمَّدٍ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَالْبَرِيَّاتِ وَلا دَارٌ وَلا مَكَانٌ إلاَّ دَخَلَتْ فِيهِ أَنْوَارٌ شُعَاعِيَّةٌ، وَلا مَغْمُومٌ إلاَّ وَقَدْ فُرِّجَتْ عَنْهُ الْغُمَّاتُ وَلا سَرِيرٌ لِمَلِكٍ مِن الْمُلُوكِ الْمُلْكِيَّةِ، إلاَّ وَنُكِّسَ مُشِيرًا بِذَلِكَ إلَى الدَّمَارِ وَالشَّتَاتِ وَنَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَواتِ وَالْبِقَاعِ الأَرْضِيَّةِ، ألاَ وَإِنَّ النُّورَ الْمَخْزُونَ الْمَكْنُونَ الَّذِي يُتَكَوَّنُ مِنْهُ نَبِيُّ الرَّحَمَاتِ. قَدْ انْتَقَلَ مِنْ خَزَائِنِ الأصْلاَبِ الشَّرِيفَةِ إلَى كَنْزِ أَحْشَاءِ آمِنَةِ الزُّهْرِيَّةِ، الْمُخْتَصَّةِ مِن اللهِ بِسَبْقِ الْعِنَايَاتِ وَعُطِّرَتْ جَوَامِعُ الْقُدُسِ الأَعْلَى وَبُخِّرَت الْجِهَاتُ الْمَلكُوتِيَّةُ، وَفُرِشَتْ لِصُوفِيَّةِ الْمَلائِكَةِ فِي صُفُوفِ الصَّفَا سَجَّادَاتُ الْعِبَادَاتِ وَتَاهَتْ دَوَّابُ الْبَحْرِ فَرَحًا بِهَاتِيكَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَفَرَّتْ وُحُوشُ الْمَشْرِقِ إلَى وُحُوشِ الْمَغْرِبِ بِالْبِشَارَاتِ وَكُسِيَتِ الأرْضُ بَعْدَ الْجَدْبِ بِحُلَلِ الأزْهَارِ النَّبَاتِيَّةِ، وَأَدْنَى الشَّجَرُ لِجَانِيهِ الثَّمَرَاتِ . وَزُخْرِفَتِ الْجِنَانُ وَأَشْرَفَتِ الْحُورُ بِحَالَةٍ اشْتِيَاقِيَّةِ، وَتَنَسَّمَتْ مِن رِيَاضِ السَّعْدِ لِلنَّاسِ نَسَمَاتٌ . وَطَلَعَتْ كَوَاكِبُ سَعْدِهِ فِي سَمَاءِ الرِّفْعَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأذَّنَ مُؤَذِّنُ الْفَلاحِ قَائِلاً: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ وَتَلاشَتِ الضَّلاَلاَتُ . وَهَتَفَتْ بِذَلِكَ هَوَاتِفُ رَبَّانِيَّةٌ، وَأُطْلِقَتِ الْعُقُولُ مِنْ سِجْنِ الْوَهْمِ وَقَيْدِ الْمُخَالَفَاتِ . وَانْتُهِكَتِ الْكَهَانَةُ وَرُهِبَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ وَلَهَجَ بِخَبَرِهِ كُلُّ عَارِفٍ بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَاتِ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الرابع
وَلَمْ تَشْعُرْ أُمُّهُ أنَّهَا حَمَلَتْ وَلاَ وَجَدَتْ مَا يَعْرِضُ لِلنِّسَاءِ مِن الْمَشَاقِّ الحَمْلِيَّةِ، وَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا أَنَّهَا خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ جَمِيعُ الْجِهَاتِ وَإنَّمَا عَرَفَتْ حَمْلَهَا بِهِ بِإخْبَارِ مَلَكٍ أتَاهَا بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَالْحَالَةِ النَّوْمِيَّةِ، قَائِلاً لَهَا: إنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ الْعَالَمِ وَسِرِّ الدُّعَاةِ . فِإذَا وَضَعْتِيهِ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَذَلِكَ مَعَ ارْتِفَاعِ حَيْضَتِهَا الظَّاهِرِيَّةِ، وَانْتِقَالِ النُّورِ إلَيْهَا مِنْ وَجْهِ عَبْدِ اللهِ كَامِلِ الشَّرَفِ والسَّيَادَاتِ َتَوَجَّهَ عَبْدُ اللهِ لِيَمْتَارَ فَتُوُفِيَ عِنْدَ أَخْوَالِ أَبِيهِ بَنِي النَّجَّارِ بِالْمَدِينَةِ الْيَثْرِبِيَّةِ، وَلَهُ مِنْ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِن السَّنَوَاتِ . وَذَلِكَ بَعْدَ أنْ مَضَى مِنْ حَمْلِهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَانِ وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ وَقِيلَ سِتَّةٌ، رِوَاَياتٌ سِيرِيَّةٌ، والأَكْثَرُ عَلَى الأُولَى مِن الرِّوَيَاتِ وَلَمْ تَزَلْ الأَنْبِيَاءُ تَتَرَدَّدُ إلَى أُمِّهِ تَرَدُّدَاتٍ تَبْشِيرِيَّةٍ، حَاكِيَةً لَهَا مَا لَهُ مِنْ رَفِيعِ الْقُرْبِ وَشَرِيفِ الْكَرَامَاتِ . وَلَمَا تَمَّ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَآنَ ظُهُورُ الرَّحْمَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ، حَضَرَ أُمَّهُ آسِيَةُ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَبَعْضٌ مِن الْحُورِ الْمَقْصُورَاتِ . وَنَزَلَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ أَوْطَانِهَا السَّمَاوِيَّةِ، وَحَفَّتْ بِأُمِّهِ حِلَقًا حِلَقًا لِتَحْجُبَهَا مِنْ الْعُيونِ الْعَائِنَاتِ . وَنُشِرَتْ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ بَوَارِقُ وَتَدَلَّتِ النُّجُومُ الزُّهْرِيَّةِ، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ نُورًا لِبُدُوِّ بَدْرِ فَلَكِ السَّعَادَاتِ . وَأَخَذَ آمِنَةَ الْمَخَاضُ وَاشْتَدَّ بِهَا الطَّلْقُ فَوَلَدَتْ مُحَمَّدًا صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأنَّهُ الْبَدْرُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَدْرِيَّةِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُشْرِقَاتِ .
( وقد استحسن بعضهم القيام هنا اجلالاً وتعظيما له صلى الله عليه وسلم )
وُلِدَ الْحَبِيبُ وَلاحَتِ الأنْوَارُ - والْكَوْنُ سُرَّ وَفَاحَتِ الأعْطَارُ
وتنسَّمَتْ نَسَمَاتُ مَوْلِدِه وَقَدْ - وَلِعَتْ بِهَا الأنْجَادُ وَالأغْوَارُ
وَتَبَسَّمَتْ زَهْرُ الرِّيَاضِ لأجْلِهِ - وَتَرَنَّحَتْ بِفَخَارِهِ الأطْيَارُ
للهِ مِن نُورٍ بَدَا لِعُيُونِنَا - سَجَدَتْ لِنُورِ جَمَالِهِ الأقْمَارُ
فَاقَتْ عَلَى كُلِّ اللَّيَالِي يَبٌ بِهِ - وعَلاَ عَلَيْهَا بِالنَّبِيِّ وَقَارُ
لِيَبٍ عَلَى كُلِّ اللَّيالِي فَضِيلَةٌ - شَهِدَتْ بِهَا الأزْمَانُ وَالأعْصَارُ
بِبُدُوِّ بَدْرِ الْكَوْنِ آيَةِ مَجْدِهِ - مَن مِنْهُ كَاسَاتُ السُّرُورِ تُدَارُ
خَيْرُ الْوُجُودِ مُحَمَّدٌ مَنْ قَدْ أشْرَقَتْ - أنْوَارُهُ ونَمَتْ بِهِ الأنْوَارُ
وابْيَضَّتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَةِ وَجْهِهِ - وَتَوالَتِ الآيَاتُ وَالأخْبَارُ
وَكَفَى بِأنَّ الْكَوْنَ سَائِرُهُ اهْتَدَى - بِهُدَاهُ وَانْقَادَتْ لَهُ الأخْيَارُ
صَلَّى عَلِيْهِ اللهُ مَوْلاهُ الَّذِي - أعْطَاهُ مَا فِيهِ الْوَرَى تَحْتَارُ
وَكَذَاكَ آلٍ وَالصَّحَابَةِ مَن بِهِمْ - رَاقَ الزَّمَانُ وَوَلَّتِ الأكْدَارُ
هَذَا وَقَدْ اسْتَحْلَى الْقِيَامَ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْلِدِهِ أئِمَّةٌ كَوَاكِبُ دُرِيَّةٌ فَطُوبَى لِمِن كَانَ قِيَامُهُ تَعْظِيمًا لِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي تَنْشَرِحُ بِهِ الصُّدُورُ وَتَتِمُّ بِهِ الصَّالِحَاتُ.
( يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات )
اللوح الخامس
رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِي بِسَنَدِهِ أنَّ آمِنَةَ عَلَيْهَا أَزْكَى التَّحِيَّةِ، قَالَتْ: لَمَّا وَضَعْتُ مُحَمَّدًا صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ سَحَابَةً لَهَا أَنْوَارٌ وَضِيَاءَاتٌ . أسْمَعُ فِيهَا صَهِيلَ الْخَيْلِ وَخَفَقَانَ الأجْنِحَةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَكَلامَ الرِّجَالِ حَتَى غَشِيَتْهُ وَغَيَّبَتْهُ عَنِّي فِي نَحْوِ لَمْحَةٍ مِن اللَّمَحَاتِ . وَسَمِعْتُ مُنَادِياً يُنَادِي: طُوفُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ الْجِهَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَأعْرِضُوهُ عَلَى كُلِّ رُوحَانِيٍّ مِن الرُّوحَانِيَّاتِ . وَأَعْطُوهُ خُلْقَ آدَمَ وَمَعْرِفَةَ شِيثٍ وَشَجَاعَةَ نُوحٍ، وَخُلَّةَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الْحَضْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَرِضَا إسْحَاقَ، وَلِسَانَ إسْمَاعِيلَ، وَفَصَاحَةَ صَالِحٍ، وَمَا لِيُونُسَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَجِهَادَ يُوشَعَ، وَصَوْتَ دَاوُدَ، وَحُبَّ دَانْيَالَ، وَمَا لِمُوسَى مِن الْقُوَّةِ الرُّسْلِيَّةِ، وَوَقَارَ إلْيَاسَ، وَعِصْمَةَ يَحْيَى، وَزُهْدَ عِيسَى، كَلِمَةُ اللهِ مِن الْخَلِيقَاتِ . وَاغْمِسُوهُ فِي جَمِيعِ أَخْلاقِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ غَمْسَةً تَخَلُّقِيَّةً، لأنَّهُ هُوَ الْمُفِيضُ عَلَيْهِمْ وَالْمُخَـلِّقُ لَهُمْ بِعَظِيمِ التَّخَلُّقَاتِ . ثُمَّ انْجَلَتْ عَنْهُ فِإذَا بِهِ قَدْ قَبَضَ عَلَى حَرِيرَةٍ خَضْرَاءَ مَطْوِيَّةٍ، فِإذَا بِمَاءٍ يَنْبُعُ مِنْهَا كَثَجَّاجِ الْمُعْصِرَاتِ . وِإذَا بِقَائِلٍ يَقُولُ: بَخٍ بَخٍ قَبَضَ مُحَمَّدٌ عَلَى الدُّنْيَا قَبْضَةً مُلْكِيَّةً، لَمْ يَبْقَ خَلْقٌ مِن أهْلِهَا إلا وَدَخَلَ طَائِعًا فِي قَبْضَتِهِ وَخَرَجَ عَمَّا سِوَاهَا مِن الْقَبَضَاتِ . ثُمَّ نَظَرْتُ إلَيْهِ فِإذَا بِهِ كَالْقَمَرِ وَلَهُ رَائِحَةٌ كَالرَّائِحَةِ الْمِسْكِيَّةِ، وَإذَا بِثَلاثَةِ نَفَرٍ لَمْ يَرَ الرَّاؤونَ مِثْلَهُمْ فِي حُسْنِ الْهَيْئَاتِ . فِي يَدِ أَحَدِهِمْ إبْرِيقٌ مِن فِضَّةٍ وَفِي يَدِ الثَّانِي طَسْتٌ مِن زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وِفِي يَدِ الثَّالِثِ حَرِيرَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، فَنَشَرَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا خَاتَمًا تَحَارُ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ دُونَهُ وَغَسَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الإبْرِيقِ سَبْعَ مَرَّاتٍ . ثُمَّ خَتَمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَلَفَّهُ فِي تِلْكَ الْحَرِيرَةِ الْمَحْكِيَّةِ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأدْخَلَهُ بَيْنَ أَجْنِحَتِهِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيَّ كَأَنَّهُ الشُّمُوسُ الطَّالِعَاتُ.
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح السادس
وَمَوْلِدُهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي دَارِ أَبِيهِ بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ فِي الطَّرَفِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْعِرَاصِ الْمَكِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الأثْنَيْنِ [اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ] عَامَ الْفِيلِ وَقِيلَ فِي يَوْمِهِ وَقِيلَ قَبْلَهُ وَقِيلَ بَعْدَهُ رِوَايَاتٌ . وَنَزَلَ عَلَى يَدِ الشَّفَّاءَ أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَرَّةِ التَّقِيَّةِ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى الأرْضِ رَافِعاً طَرْفَهُ إلَى السَّمَاوَاتِ وفِي ذَلِكَ مَا لا يَخْفَى لَدَى أصْحَابِ البَصَائِرِ النَّوْرَانِيَّةِ، مِنْ تَوَاضُعِهِ وَسُؤْدَدِهِ وإشَارَتِهِ إلَى مِعْرَاجِهِ وَخَلْوَةِ الْمُكَالَمَاتِ . وَأرْسَلَتْ أمُّهُ لِجَدِّهِ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَهْــوَ يَطُوفُ حَوْلَ الْبَنِيَّةِ، فَأَقْبَلَ مُسْرِعاً سَاحِباً ذَيْلَ فَرَحِهِ لِيَكْتَحِلَ بِإثْمِدِ أنْوَارِ هَاتِيكَ الذَّاتِ. وَوُلِدَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَقِيلاً كَحِيلاً مُعَطَّراً بِنَفَائِسِ النَّفَحَاتِ الْعِطْرِيَّةِ، مَخْتُوناً وَقِيلَ خَتَنَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَابِعَ وِلادَتِهِ الْتِي انْجَلَتْ بِهَا عَنَّا الْغِشَاوَاتِ . وَقِيلَ: جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ حِينَ شَقَّ صَدْرَهُ الَّذِي هُوَ مَحَطُّ الْفُيُوضَاتِ الْوَحْيِيِّةِ، حَيْثُ كَانَ عِنْدَ مُرْضِعَتِهِ حَلِيمَةَ الَّتِي خَيَّمَتْ عَلَيْهَا السَّعَادَاتُ . وَرُوِيَ أنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أمِّهِ بِكَلِمَاتٍ إلْهَامِيَّةٍ، وَهْيَ {اللهُ أكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأصِيلاً} وَقِيلَ عَلَى هَذَا زِيَادَاتٌ . وَرَأَتْ أُمُّهُ حِينَ وَضَعَتْهُ أنَّهَا خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أضَاءَتْ لَهُ الْحَنَادِسُ وَقُصُورُ الشَّامِ الْقَيْصَرِيَّةِ، كَيْفَ لا وَهْوَ النُّورُ الَّذِي كُوِّنَتْ مِن نُّورِهِ النَّيِّرَاتُ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح السابع
وَظَهَرَتْ يَوْمَ مَوْلِدِهِ عَجَائِبُ وَإرْهَاصَاتٌ لَمْ تَحْصُرْهَا الأقْلامُ الْبَنَانِيَّةُ، تُفْهِمُ أنَّ لِهَذَا الْمَوْلُودِ شَأناً عِنْدَ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ . وَزُخْرِفَتِ الْجِنَانُ وَالْوِلْدَانُ وَالْحُورُ الْعِينِيَّةُ، وَاهْتَزَ الْعَرْشُ طَرَباً وَزَهَا الْكُرْسِيُّ عَجَباً وَضَجَّتْ بالتَّسْبِيحِ الْمَلائِكَةُ الْعُلْوِيَّاتُ وَانْبَلَجَتْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى لِبُدُوِّ فَجْرِ الْمِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وَمَعْشَرُ الْمَلائِكَةِ بالأنْوَارِ الْقُدْسِيَّاتِ وَأُمِرَ مَالِكٌ بِغَلْقِ الأبْوَابِ النِّيرَانِيَّةِ، وَرِضْوَانُ بِفَتْحِ أبْوَابِ الْجَنَّاتِ. وَحُرِسَتِ السَّمَاءُ وَرُدَّتْ عَنْهَا النُّفُوسُ الشَّيْطَانِيَّةُ، وَرُجِمَ كُلُّ رَجِيمٍ حَالَ مَرْقَاهُ بِالنُّجُومِ الشُّهُبِيَّاتِ وَخَرِسَتْ أَلْسُنُ قَوْمِهِ وَذُهِلَتْ مِنْهُمْ الْعُقُولُ الصَّدْرِيَّةُ، وَنَشَأَ فِيهِمْ بُغْضُ الأصْنَامِ وَالْعُدُولُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْغِوَايَاتِ وَخَرَّتِ الصُّلْبَانُ وَالأَنْصَابُ لإشْرَاقِ نُورِ هَيْبَتِهِ الْجَلالِيَّةِ، وَتَوَالَتْ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ بُشْرَى الْهَوَاتِفِ وَتَظَاهَرَتِ الآيَاتُ وَخَمَدَتِ النِّيرَانُ الْمَعْبُودَةُ بِالأرْضِ الْفَارِسِيَّةِ، وَكَانَ لَهَا أَلْفُ عَامٍ لَمْ تَخْمُدْ فِي وَقْتٍ مِنَ الأوْقَاتِ وَ ارْتَجَسَ إِيوان كِسْرَى وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعُ عَشْرَةَ شُرْفَةً مِنْ شُرُفَاتِهِ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ طَبَرِيَّةِ وَفَاضَ وَادِي سَمَاوَةَ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ قَبْلُ مَاءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ عَابِرٌ عَلَى هَاتِيكَ الْفَلَوَاتِ فَلَمَّا نَظَرَ كِسْرَى مَا حَدَثَ بِإيوَانِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ التَّدْمِيرِيَّةِ أَحْضَرَ مُوبَِذَانَهُ وَهْوَ القَاضِي لِلْفُرْسِ فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْمُصْطَلَحَاتِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ فَقَالَ الْمُوبَِذَانُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ إبِلاً صِعَاباً تَقُودُ خَيْلاً عَرَبِيَّةً، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلادِنَا ذَاتِ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ وَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ وَافَاهُ الْخَبَرُ بِخُمُودِ النِّيرَانِ وَغَيْضِ الْبُحَيْرَةِ بَعْدَ هَاتِيكَ الْمِيَاهِ الْوُسْعِيَّةِ، فَجَمَعَ زُعَمَاءَ دِينِهِ وَسَألَهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الآرَاءِ والتَّدْبِيرَاتِ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أنْ يَكْتَبَ لِلنُّعْمَانَ بْنِ الْمُنْذِرِ وَكَانَ مِمَّنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ مَكَانَةٌ وَمَزِيَّةٌ أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ عَالِمَ الْعَرَبِ الَّذِي يَكْشِفُ نَحْوَ هَذَا بَأَوْضَحِ عِبَارَاتٍ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عَبْدَ الْمَسِيحِ بْنَ عَمْرٍو أَحَدَ الأجِلَّةِ الْغَسَّانِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى أعِنْدَكَ عِلمٌ بِمَا أُرِيدُ مِنَ الْمُرَادَاتِ. فَقَالَ يُخْبِرُنِي الْمَلِكُ فِإنْ يَكُ عِنْدِي فِيهِ عِلْمٌ أخْبَرْتُهُ عَلَى فِطَانَةٍ عَقْلِيَّةٍ، فَقَالَ: أُرِيدُ أنْ تَعَلَمَهُ قَبْلَ أنْ أُبْدِيهِ لَكَ بِتَلَفُّظَاتٍ فَقَالَ: هَذَا يَعْلَمُهُ خَالٌ لِي يَقَالُ لَهُ سَطِيحٌ بِالْبِلادِ الشَّامِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ وَيَسْألَهُ عَنْ ذَلِكَ فَذَهَبَ إلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَدْ أشْرَفَ عَلَى الْمَمَاتِ. فَرَفَعَ صَوْتَهُ يَقُولُ أصَمُّ أمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أعْيَيْتَ مَنْ وَمَنْ فَقَالَ جَاءَ عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمْلٍ مُشِيحٍ ، أيْ مُقْبِلاً كَمَا فِي الْكُتُبِ اللُّغَوِيَّةِ. بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ، وَارْتِجَاسِ الإيوَانِ وَسُقُوطِ الشُّرُفَاتِ . يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إذَا بُعِثَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَغَاضَتِ الْبُحَيْرَةُ، وَظَهَرَتِ التِّلاوَةُ الْقُرْآنِيَّةُ، فَلَيْسَتِ الشَّامُ لَسَطِيحٍ شَامًا وَلا بَابِلُ لِلْفُرْسِ مُقَامًا يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ. وَقَضَى سَطِيحٌ نَحْبَهُ وَعَادَ عَبْدُ الْمَسِيحِ بِتِلْكَ الأَخْبَارِ السَّطِيحِيَّةِ، فَقَالَ أنُو شَرْوَانَ إلَى أنْ يَمْلِكَ مِنَّا أَرْبَعَةُ عَشَرَ عَسَى أنْ تَكُونَ أُمُورٌ وَحِكَاياتٌ . فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ غَيْرُ هَنِيَّةٍ، وَالْبَاقُونَ إلَى خَلافَةِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ *10 مُؤَيَّدِ الْغَزَوَاتِ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الثامن
وَأَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَةَ أَيَامٍ سَوِيَّةٍ، ثُمَّ ثُوَيْبَةُ مَوْلاةُ أبِي لَهَبٍ الَّتِي أَعْتَقَهَا حِينَ وَافَتْهُ عِنْدَ مِيلادِهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبِشَارَاتِ. ثُمَّ خَوْلَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ غَيْرُ حَلِيمَةِ الشَّهِيرِيَّةِ، ثُمَّ أُمُّ فَرْوَةَ، ثُمَّ أُمُّ أَيْمَنَ، ثُمَّ ثَلاثُ أَبْكَارٍ مِن بَنِي سُلَيْمٍ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَاتِكَةُ *1 فَيَالَهُنَّ مِن مُرْضِعَاتٍ .
وَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَرَاضِعُ مَكَّةَ أَخَذَتْهُ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ، وَمَضَتْ بِهِ إلَى بَادِيَةِ بِنِي سَعْدٍ فَوَجَدَتْ لَهُ مَا لا يُحْصَى مِنَ الْخَوَارِقِ وَمَا لا يُعَدُّ مِنَ الْبَرَكَاتِ .وَكَانَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشِبُّ فِي الْيَومِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي الشَّهْرِ بِعِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ فِي ثَلاثةٍ وَمَشَى فِي خَمْسَةٍ وَفِي تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَعْرَبَ بِفَصِيحِ اللُّغَاتِ . وَقَدْ شَقَّ الْمَلَكَانِ صَدْرَهُ الشَّرِيفَ لَدَيْهَا وَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ وَهْوَ مَا تَقْتَضِيهِ الذَّاتُ التُّرَابِيَّةُ، وَغَسلاهُ بِالثَّلْجِ وَمَلآهُ بِالْحِكَمِ الْحَكِيمَاتِ . وَالْتَأَمَ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ وَلاَ خِيَاطَةٍ لأَنَّهُ مِنَ الْخَوَارِقِ التَّأيِِيدِيَّةِ، وَخَتَمَاهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ وَخَلَعَا عَلَيْهِ خِلَعَ الْوَقَارِ وَبُرَدَ الْكَمَالاتِ . وَوَزَنَاهُ فَرَجَّحَ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ الْخَيْرِيَّةِ، فَقَبَّلا رَأْسَهُ وَبَشَّرَاهُ بِمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ .ثُمَّ رَدَّتْهُ إِلَى أُمِّهِ فَسَافَرَتْ بِهِ لِزِيَارَةِ أَخْوَالِ أَبِيهِ بَنِي عَدِيٍّ مِنَ الطَّائِفَةِ النَّجَّارِيَّةِ، بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ الَّتِي هِيَ مُتَبَوَّؤُهُ وَمَعَاهِدُ الْبَرَاهِينِ وَالْمُعْجِزَاتِ . وَبَعْدَ رُجُوعِهَا وَافَتْهَا بِشِعْبِ الْحَجُونِ الْمَنِيَّةُ، وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَحَسَنَ الْكَفَالاَتِ . وَلَمَّا بَلَغَ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعًا أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَاتَ جَدُّهُ وَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ شَقِيقُ أَبِيهِ بِهِمَّةٍ وَحَمِيَّةٍ، وَقَدَّمَهُ عَلَى النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ .وَلَمَّا بَلَغَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً خَرَجَ بِهِ فِي تِجَارَةٍ إلَى الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ، فَلَمَّا رَآهُ بَحِيرَى الرَّاهِبُ *2 بِبُصْرَى عَرَفَهُ بِمَا لَهُ مِنَ الأَوْصَافِ الإنْجِيلِيَاتِ . وَقَالَ لَهُ ارْجِعْ بِهَذَا الْغُلاَمِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، فِإنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ لَيْسَ يُحْكَى فِيمَا مَضَى وَلاَ فِيمَا هُوَ آتٍ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح التاسع
وَلَمَّا رَجَعَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الشَّامِ سَأَلَتْهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلَدٍ *1 الْقُرَشِيَّةُ الأَسَدِيَّةُ، أن يُسَافَرَ لَهَا فِي تِجَارَةٍ وَمَعَهُ غُلاَمُهَا مَيْسَرَةُ *2 فَأَجَابَهَا نَبِيُّ التَّشْرِيعَاتِ.فَلَمَّا عَادَ مَيْسَرَةُ حَدَّثَهَا بِمَا رَأَى لَهُ مِن الآيَاتِ وَمَا حَكَاهُ فِيهِ نُسْطُورُ رَاهِبُ النَّصْرَانِيَّةِ، حَيْثٌ جَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةٍ لَدَى صَوْمَعَتِهِ مِنْ وَاضِحِ الْعَلامَاتِ . وَأَنَّ مَلَكَيْنِ يُظِلاَنِهِ فِي الآنَاءِ الْحَرِّيَّةِ، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ لِتَرْقَى بِهِ عَلَى مَنَابِرِ الشَّرَفِ فِي حُضَيْرَةِ السَّعَادَاتِ . فَتَزَوَّجَهَا صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْدَقَهَا عِشْرِينَ بَكْرَةً عُرَابِيَّةً، وَكَانَ لَهُ إذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَلَهَا هِيَ أَرْبَعُونَ مِنَ السِّنِينَ الْقَمَرِيَّاتِ . وَلَمْ يَتَزَوَّجْ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَهَا وَلا عَلَيْهَا وَأَوْلَدَهَا جَمِيعَ الْبَنِينَ وَالذُّرِّيَّةَ، إلاَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَإنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ *3 الْقِبْطِيَّةِ الْمُهْدَاةِ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح العاشر
وَلَمَّا بَلَغَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرْبِعِينَ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ الْقَمَرِيِّةِ، بَعَثَهُ اللهُ بِشِيرًا وَنَذِيرًا إلَى كَافَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فِي الشَّهَادَةِ التَّوْحِيدِيَّةِ، وَأَيَّدَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّامِغَةِ وَالأَلْفَاظِ النَّاصِعَةِ عَنْ شَوَائِبِ الرَّكَاكَاتِ .وَحُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلاءُ فَكَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءٍ اللَّيَالِي الْعَدَدِيَّةِ، إلَى أنْ جَــاءَهُ الْمَلَكُ بِصَرِيحِ الآيَاتِ. فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَالَ مَا أنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّهُ غَطَّةً قَوِيَّةٍ، ثُمَّ قَــالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَاَل مَا أنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّهُ غَطَّةً ثَانِيَةً حَتَى بَلَغَ مِنْ ذَلِكَ النِّهَايَاتِ . ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَقَـالَ لَهُ اقْــرَأْ فَقَالَ مَا أنَا بِقَــارِئٍ فَغَطَّهُ ثَالِثَةً ثُمَّ أَرْسَلَهُ وَقَـالَ لَهُ: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وَكَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إلَى الْحَضْرَةِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ ثَلاثِينَ شَهْرًا لِيَشْتَاقَ إلَى انْتِشَاقِ هَاتِيكَ النَّفَحَاتِ . ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) عَلَى أَحَدِ الأَقْوَالِ التَّرْتِيبِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ تَوَاتَرَ الأَمْرُ إلَى أنْ تَمَّ نُزُولُ الآيَاتِ الْقُرْآنِيَّاتِ .وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الأقْوَالِ الْمَرْوِيَّةِ، لِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبَ أَحَدِ الشُّهُورِ الْعَرَبِيَاتِ . جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ مُسْرَجًا مُلْجَمًا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مَلَكِيَّةٍ، فَلَمَا دَنَا مِنْهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ ظَهْرَهُ مُسْتَصْعِبًا بِنَفَرَاتٍ . فَقَرَعَهُ جِبْرِيلُ بِأصْوَاتٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ التَّأْدِيبِيَّةِ، قَائِلاً لَهُ: مَا رَكِبَكَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ مُحَمَّدٍ وَاسِطَةِ عِقْدِ النُّبُوَّاتِ وَعُمُومِ الدِّيَانَاتِ . فَأسْرِيَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ مِن الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ذِي الرِّحَابِ الْقُدُسِيَّةِ، فَرَبَطَهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَ يَرْبُطُ بِهَا النَّبِيُّونَ الْقَادَاتُ . ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ بِالأنْبِيَاءِ أوْلِي السَّبْقِيَّةِ، وَذَلِكَ لِرِفْعَةِ مَكَانَتِهِ وَتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَجَالِي الشَّرَفِيَّاتِ . ثُمَّ خَرَجَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِإنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإنَاءٍ مِن لَبَنٍ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ لاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْخَيْرِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ أَيْ الاسْتِقَامَةَ عَلَى الْهِدَايَاتِ .ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ فَلَقِىَ فِي الأُولَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عُنْصَرَ الْعَوَالِمِ الْبَشَرِيَّةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ ابْنَيْ الْخَالَةِ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَاءَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مُحْيِي الأمْوَاتِ . وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسَفَ بِصُورَتِهِ الْجَمَالِيَّةِ، وَفِي الرَّابِعَةِ إدْرِيسَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ مَكَانًا عَلِيًّا كَمَا فِي مُحْكَمِ الآيَاتِ . وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ وَفِي السَّادِسَةِ مُوسَى وَهْوَ الَّذِي رَدَّهُ إلَى تَخْفِيضِ الصَّلَوَاتِ الْفَرْضِيَّةِ، فَرَجَعَتْ الْخَمْسُونَ إلَى خَمْسٍ وَلَهَا ثَوَابُ الْخَمْسِينَ مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَفِي السَّابِعَةِ إبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بِالتَّجَلِّيَاتِ الكُنْهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ولا يَعُودُونَ إلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْمِيقَاتِ .ثُمَّ ذُهِبَ بِهِ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا عِلْمُ الْخَلائِقِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإذَا بَأرْبَعَةِ أنْهَارٍ يَنْبُعُ مِنْ أصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنْهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَهُمَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ .ثُمَّ رَقَى صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْـتَوَى ثُمَّ إلَى الْعَرْشِ ثُمَّ إلَى الْمَرْتِبَةِ الرَّفْرَفَيَّةِ، ثُمَّ إلَى مَحَلٍّ تَعْجَزُ عَنْهُ الأفْهَامُ وَتَهَابُهُ النُّفُوسُ والْخَطَرَاتُ . فِإذَا النِّدَاءُ مِنَ الْعَلَيِّ الأَعْلَى: ادْنُ يَا مُحَمَّدُ ادْنُ يَا أَحْمَدُ، ادْنُ يَا لِسَانَ الْعِزَّةِ الأَقْدَسِيَّةِ، فَدَنَا مِن رَبِّهِ كَقَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أدْنَى أيْ كَقُرْبِ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ وَفِيهَا غَيْرُ هَذَا مِنَ التَّأْوِيلاَتِ. وَرَأى صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ الرَّأْسِيَّةِ، بَعَدَ أنْ بُسِطَتْ لَهُ بُسُطُ الإدْلالِ فِي حُضَيْرَةِ الْحَضَرَاتِ . وَهُنَاكَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنَ الأَسْرَارِ الظَّاهِرِيَّةِ والْبَاطِنِيَّةِ، الَّتِي مِنْهَا مَا وَسِعَ الْمُلْكِيَّاتِ وَالْمَلَكُوتِيَّاتِ .وَمِمَّنْ قَالَ بِرُؤْيَتِهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عَبَّاسٍ *1 وَغَيْرُهُ مِنَ الأئِمَّةِ السُّنِّيَّةِ، وَبِذَلِكَ اقْتَدَى ابْنُ حَنْبَلٍ *2 وَغَيْرُهُ مِنَ الأكَابِرِ السَّادَاتِ . فَعَادَ فِي لَيْلَتِهِ إلَى مَكَّةَ وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا بِمَا رَأى مِنَ الآيَاتِ الشَّاهِدِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ، فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَكَذَّبُوهُ وَصَدَّقَهُ الصِّدِّيقُ *3 فَِللَّهِ دَرُّهُ مِنْ صِدِّيقٍ حَسُنَتْ مِنْهُ الْبِدَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الحادى عشر
وَلَمْ يَزَلْ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَابِراً عَلَى أذَى الْفِئَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَدْعُوهُمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَهَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ . ثُمَّ أُذِنَ لَهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وََحِينَ خُرُوجِهِ تَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ذِي الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ سُرُورًا لِهَاتِيكَ الْخُصُوصِيَّةِ، وَقَالَ: الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللهِ يَا صَادِقَ الْمَقَالاتِ. وَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ *1 وَكَانَ إذْ ذَاكَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مَاهِراً فِي الْهِدَايَةِ السَّيْرِيَّةِ، فَمَضَيَا إلَى غَارِ ثَوْرٍ فَدَخَلا فِيهِ وَقَدْ حَمَتْ حِمَاهُ الْعَنَاكِبُ وَالْحَمَامَاتُ .وَخَرَجَا مِنَ الْغَارِ بَعَدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ عَدَدِيَّةٍ، وَمَعَهُمَا الدَّلِيلُ وَعَامِرُ ابْنُ فُهَيْرَةَ *2 مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَرَدِيفُهُ بَهَاتِيكَ الْمَسَافَاتِ . وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِمْ وَلَحِقَهُمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ *3 دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ (لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنا) فَيَالَهَا مِن تَرْقِيَاتٍ . وَدَعَا عَلَى سُرَاقَةَ فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ قَوِيَّةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ خَلِّصْنِي وَلَكَ أنْ أَرُدَّ عَنْكَ فَدَعَا لَهُ فَخَلُصَ بِبَرَكَةِ الدَّعْوَاتِ . فَنَكَثَ وَعَادَ إلَى الطَّلَبِ فَدَعَا عَلَيْهِ فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ كَالْحَالَةِ الأوَّلِيَّةِ، وَسَأَلَهُ الْخَلاصَ فَمَنَحَهُ إِيَّاهُ فَمَا أرْأَفَهُ مِن نَبِيٍّ لاَ يُقَابِلُ السَّيِّآتِ إلاَ بِالْحَسَنَاتِ. وَرَجَعَ يَقُولُ لِكُلِّ مَن لَقِيَهُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، ارْجِعْ فَمَا لِمُحَمَّدٍ هُنَا خَبَرٌ وَلاَ أَثَرٌ بَهَاتِيكَ الطُّرُقَاتِ .وَاجْتَازُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِأُمِّ مَعْبَدٍ بِقٌدَيْدٍ عَلَى الطَّرَفِ الشَّرْقِيِّ الَّذِي يَلِي الْمَدِينَةِ الْيَثْرِبِيَّةِ، فَقَالُوا لَهَا هَلْ مِنْ لَبَنٍ نَشْتَرِيَهُ مِنْكِ بِدُرْيْهِمَاتٍ . قَالَتْ لاَ، فَرَأى رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الرَّعِيَّةِ، لَمْ يَضْرِبْهَا فَحْلٌ وَلَمْ يَقْطُرْ ضَرْعُهَا مِن اللَّبَنِ بِقَطَرَاتٍ . قَالَ أَتَأْذَنِينَ فِي حَلْبِهَا فَأَذِنَتْ لَهُ فَمَسَحَ عَلَى ظَهْرِهَا وَفِي رِوَايَةٍ ضَرْعِهَا بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ الزَّكِيَّةِ، فَدَرَّتْ وَفَتَحَتَ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا لِلْحِلابِ إِظْهَارًا لِمَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ . فَدَعَا بِانَاءٍ يَرْوِي مَن مَعَهُ مِنْ أَصَحَابٍ فَحَلَبَ فِيهِ لِكَثْرَةِ اللَّبَنِ ثَجًّا أَيْ بِقُوَّةٍ يَمِينِيَّةٍ، حَتَى عَلَتِ اللَّبْنَ الرَّغْوَةُ فَسَقَى أُمَّ مَعْبَدٍ حَتَى رَوِيَتْ قَبْلَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ . ثُمَّ سَقَاهُمْ حَتَى رَوُوا وَكَانُوا رَهْطاً مَا بَيْنَ التِّسْعَةِ إلَى الأَرْبَعِينِيَّةِ، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ مِن بَعْدِهِمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَالتَّسْلِيمَاتِ . وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الأثْنَيْنِ ثَانِي عَشْرَ رَبِيعٍ الأوَّلِ مِن الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ تَارِيخِ دَوْلَةِ الإسْلاَمِ الَّذِي اخْتَارَهُ عُمَرُ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْهُدَاةُ .
يا رب صلَّ على الذات المحمدية ورقِّنا ببركتها الى كامل الدرجات
اللوح الثانى عشر
وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حِينَ بَلَغَهُمْ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن الدِّيَارِ الْحَرَمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلادِهِمِ يَنْتَظِرُونَ لِقَاءَهُ عَلَى مَدَامِعَ سُرُورِيَاتٍ. وَكَانَ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَى يَحْرِقُهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ النَّهَارِيَّةِ، فَهَنِيئًا لَهُمْ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الصَّافِيَاتِ . فَلَمَا رَأَوْهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَامَوُا عَلَى أَقْدَامِهِ الْحُسْنِيَّةِ، وَقَدْ أَسْبَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْخُدُودِ الْعَبَرَاتِ . فَنَزَلَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءَ وَأَقَامَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الأثْنَيْنِ إِلَى الْخَمِيسِ أَوْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْبُخَارِيَّةِ، وَعْنْ أَنَسٍ *1 كَانَتْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِقُبَاءَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَدْ مَالَ إِلَيْهَا الْكَثِيرُ مِن الرُّوَاةِ . وَأَسَّسَ مَسْجِدَهَا بِأَوَامِرَ رَبَّانِيَّةٍ، وَهْوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوْلِ يَوْمٍ كَمَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ. فَمَا مَرَّ عَلَى دُورٍ مِن دُورِ الأنْصَارِ إلاَّ اعْتَرَضُوا نَاقَتَهَ بِمَوَدَّةٍ قَلْبِيَّةٍ، وَقَالُوا هَلُمَّ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ يَاخَيْرَ الْبَرِيَّاتِ . وَهْوَ يَقُولُ خَلُّوا سَبِيلَهَا إلَى أنْ وَصَلَتْ مَوْضَعَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِرْبَداً لِسَهْلٍ *2 وَسُهَيْلٍ وَهُمَا مِن النَّجَّارِيَّةِ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَأَقَامَ بِمَنْزِلِ أَبِي أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ *3 إلَى أنْ بَنَي الْمَسْجِدَ وَمَا لأَزْوَاجِهِ مِن الْحُجُرَاتِ . وَرُوِيَ أنَّ تُبَّعًا *4 قَدْ ابْتَاعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضَعَ هَذَا الْمَسْجِدِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ بِأَلْفِ سَنَةٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَأنَّهُ لَمْ يَزَلَ فِي مُلْكِهِ مُنْذُ ذَلِكَ الْعَهْدِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُهُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الثِّقَاتِ. وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَدْ صَعَدَتْ ذَوَاتُ الْخُدُورِ عَلَى الأسْطِحَةِ الْعَلِيَّةِ، يَقُلْنَ قَوْلَهُنَّ "طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا" الأَبْيَاتِ الشِّعْرِيَّاتِ. وَفَرِحَتِ النُّفُوسُ بِقُدُومِهِ فَرْحَةً حُبِيَّةً، وَأَشْرَقَتْ الأنْوَارُ وَفَاحَتِ الأَعْطَارُ وَغَوالِي الْمَسَرَّاتِ . ثُمَّ إنَّهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَدَ أنْ بَنَى الْمَسْجِدَ وَمَسَاكِنَهُ السَّنِي